فصل: تفسير الآية رقم (21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (21):

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)}
{أَوَ لَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ} أي مآل حال الذين كذبوا الرسل عليهم السلام قبلهم كعاد. وثمود، و{يَنظُرُواْ} مجزوم على أنه معطوف على {يَسِيرُواْ}، وجوز أبو حيان كونه منصوبًا في جواب النفي كما في قوله: {الم تُسْئَلُ} وتعقب بأنه لا يصح تقديره بأن لم يسيروا ينظروا. وأجيب بأن الاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي فيكون جواب نفي النفي {مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} قدرة وتمكنًا من التصرفات، والضمير المنفصل تأكيد للمضير المتصل قبله، وجوز كونه ضمير فصل ولا يتعين وقوعه بين معرفتين فقد أجاز الجرجاني وقوع المضارع بعده كما في قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبدئ وَيُعِيدُ} [البروج: 13] نعم الأصل الأكثر فيه ذلك، على أن أفعل التفضيل الواقع بعده من الداخلة على المفضل عليه مضارع للمعرفة لفظًا في عدم دخول أل عليه ومعنى لأن المراد به الأفضل باعتبار أفضلية معينة.
وجملة {كَانُواْ} إلخ مستأنفة في جواب كيف صارت أمورهم. وقرأ ابن عامر {مّنكُمْ} بضمير الخطاب على الالتفات.
{وَءاثَارًا فِي الأرض} عطف على قوة أي وأشد آثارًا في الأرض مثل القلاع المحكمة والمدائن الحصينة، وقد حكى الله تعالى عن قوم منهم أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا.
وجوز كونه عطفًا على {أَشَدَّ} بتقدير محذوف أي وأكثر آثارًا فتشمل الآثار القوية وغيرها، وهو ارتكاب خلاف المتبادر من غير حاجة يعتد بها، وقيل: المراد بهذه الآثار آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم وليس بشيء أصلًا {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ} أي وليس لهم واق من الله تعالى يقيهم ويمنع عنهم عذابه تعالى أبدًا، فكان للاستمرار والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، ومن الثانية زائدة ومن الأولى متعلقة بواق، وقدم الجار والمجرور للاهتمام والفاصلة لأن اسم الله تعالى قيل: لم يقع مقطعًا للفواصل. وجوز أن تكون من الأولى للبدلية أي ما كان لهم بدلًا من المتصف بصفات الكمال واق وأريد بذلك شركاؤهم، وأن تكون ابتدائية تنبيهًا على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدئ من جهته سبحانه واقية لم يكن لهم باقية.

.تفسير الآية رقم (22):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)}
{ذلك} الأخذ {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات والأحكام الواضحة {فَكَفَرُواْ} ريثما أتتهم رسلهم بذلك {فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ} متمكن مما يريده عز وجل غاية التمكن {شَدِيدُ العقاب} لا يعتد بعقاب عند عقابه سبحانه، وهذا بيان للإجمال في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} [غافر: 21] إن كانت الباء هناك سببية وبيان لسبب الأخذ إن كانت للملابسة أي أخذهم ملابسين لذنوبهم غير تائبين عنها فتأمل.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا} وهي معجزاته عليه السلام {وسلطان مُّبِينٍ} حجة قاهرة ظاهرة، والمراد بذلك قيل ما أريد بالآيات ونزل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين فعطف الثاني على الأول، وقيل: المراد به بعض من آياته له شأن كالعصا، وعطف عليه تفخيمًا لشأنه كما عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة.
وتعقب بأن مثله إنما يكون إذا غير الثاني بعلم أو نحوه أما مع إبهامه ففيه نظر، وحكى الطبرسي أن المراد بالآيات حجج التوحيد وبالسلطان المعجزات الدالة على نبوته عليه السلام، وقيل الآيات المعجزات والسلطان ما أوتيه عليه السلام من القوة القدسية وظهورها باعتبار ظهور آثارها من الإقدام على الدعوة من غير اكتراث. وقرأ عيسى {سلطان} بضم اللام.

.تفسير الآية رقم (24):

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)}
{إلى فِرْعَوْنَ وهامان} وزير فرعون، وزعم اليهود أنه لم يكن لفرعون وزير يدعى هامان وإنما هامان ظالم جاء بعد فرعون بزمان مديد ودهر داهر نفى جاءهم من اختلال أمر كتبهم وتواريخ فرعون لطول العهد وكثرة المحن التي ابتلوا بها فاضمحلت منها أنفسهم وكتبهم.
{وَقَشرُونَ} قيل هو الذي كان من قوم موسى عليه السلام، وقيل: هو غيره وكان مقدم جنود فرعون، وذكرهما من بين أتباع فرعون لمكانتهما في الكفر وكونهما أشهر الأتباع.
وفي ذكر قصة الإرسال إلى فرعون ومن معه وتفصيل ما جرى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبل وأقر بهم زمانًا ولذا خص ذلك بالذكر، ولا بعد في كون فرعون وجنوده أشد من عاد {فَقَالُواْ ساحر} أي هو يعنون موسى عليه السلام ساحر فيما أظهر من المعجزات {كَذَّابٌ} في دعواه أنه رسول من رب العالمين.

.تفسير الآية رقم (25):

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)}
{فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا} وبلغهم أمر الله تعالى غير مكترث بقولهم ساحر كذاب {قَالُواْ} غيظًا وحنقًا وعجزًا عن المعارضة {اقتلوا أَبْنَاء الذين ءامَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَاءهُمْ} أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه بهم أولًا كي تصدوهم عن مظاهرة موسى عليه السلام، فالأمر بالقتل والاستحياء وقع مرتين. المرة الأولى حين أخبرت الكهنة والمنجمون في قول فرعون ولود من بني إسرائيل يسلبه ملكه، والمرة الثانية هذه، وضمير {قَالُواْ} لفرعون ومن معه.
وقيل: إن قارون لم يصدر منه مثل هذه المقالة لكنهم غلبوا عليه {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضلال} في ضياع من ضلت الدابة إذا ضاعت، والمراد أنه لا يفيدهم شيئًا فالعاقبة للمتقين، واللام إما للعهد والإظهار في موقع الإضمار لذمهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم أو للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولًا أولياف، والجملة اعتراض جيء به في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد واضمحلاله بالمرة.

.تفسير الآية رقم (26):

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)}
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى} كان إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك وأضعف وما هو إلا ساحر يقاومه ساحر مثله وإنك إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة، والظاهر أنه لعنه الله تعالى استيقن أنه عليه السلام نبي ولكن كان فيه خب وجريرة وكان قتالًا سفاكًا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه الذي يثل عرشه ويهدم ملكه ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك فقوله: {ذَرُونِى} إلخ كان تمويهًا على قومه وإيهامًا أنهم هم الذين يكفونه وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع ويرشد إلى ذلك قوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} لأن ظاهره الاستهانة وسى عليه السلام بدعائه ربه سبحانه كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أنه كان يرعد فرائصه من دعاء ربه فلهذا تكلم به أول ما تكلم وأظهر أنه لا يبالي بدعاء ربه وما هو إلا كمن قال: ذروني أفعل كذا وما كان فليكن وإلا فما لمن يدعي أنه ربهم الأعلى أن يجعل لما يدعيه موسى عليه السلام وزنًا فيتفوه به تهكمًا أو حقيقة {إِنّى أَخَافُ} إن لم أقتله {أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ} أن يغير حالكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعادة الأصنام وكان عليه اللعنة قد أمرهم بنحتها وإن تجعل شفعاء لهم عنده كما كان كفار مكة يقولون: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] ولهذا المعنى أضافوا الآلهة إليه في قولهم: {وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ} [الأعراف: 127] فهي إضافة تشريف واختصاص وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين، وقال ابن عطية: الدين السلطان ومنه قول زهير:
لئن حللت بحي من بني أسد ** في دين عمرو وحالت بيننا فدك

أي إني أخاف أن يغير سلطانكم ويستذلكم {أَوْ أَن يُظْهِرَ} إن لم يقدر على تغيير دينكم بالكلية {فِى الأرض الفساد} وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب ويهلك الناس قتلاف وضياعًا فالفساد الذي عناه فساد دنياهم، فيكون حاصل المعنى على ما قرر أولًا إني أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل وهما أمران كل منهما مر، ونحو هذا يقال على المعنى الثاني للدين، وعن قتادة أن اللعين عنى بالفساد طاعة الله تعالى: وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {وَأَنْ} بالواو الواصلة.
وقرأ الأعرج. والأعمش. وابن وثاب. وعيسى. وابن كثير. وابن عامر. والكوفيون غير حفص {يُظْهِرُ} بفتح الياء والهاء {الفساد} بالرفع. وقرأ مجاهد {يُظْهِرُ} بتشديد الظاء والهاء {الفساد} بالرفع. وقرأ زيد بن علي {يُظْهِرُ} بضم الياء وفتح الهاء مبنيًا للمفعول {الفساد} بالرفع.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)}
{وَقَالَ مُوسَى} لما سمع بما أجراه اللعين من حديث قتله {إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} قاله عليه السلام مخاطبًا به قومه على ما ذهب إليه غير واحد، وذلك أنه لما كان القول السابق من فرعون خطابًا لقومه على سبيل الاستشارة وإجالة الرأي لا حضر منه عليه السلام كان الظاهر أن موسى عليه السلام أيضًا خاطب قومه لا فرعون وحاضريه بذلك، ويؤيده قوله تعالى: في الأعراف {وَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ استعينوا} [الأعراف: 128] في هذه القصة بعينها، وقوله تعالى هنا: {وَرَبّكُمْ} فإن فرعون ومن معه لا يعتقدون ربوبيته تعالى واردة أنه تعالى كذلك في نفس الأمر لا يضر في كونه مؤيدًا لأن التأييد مداره الظاهر، وصدر الكلام بأن تأكيدًا وتنبيهًا على أن السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله تعالى، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ، والتربية وأضافه إليه وإليهم حثًا لهم على موافقته في العياذ به سبحانه والتوجه التام بالروح إليه جل شأنه لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة، وهذا هو الحكمة في مشروعية الجماعة في العبادات، و{مِن كُلّ} على معنى من شر كل وأراد بالتكبر الاستكبار عن الإذعان للحق وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة ومهانة نفسه وعلى فرط ظلمه وعسفه، وضم إليه عدم الإيمان بيوم الجزاء ليكون أدل وأدل، فمن اجتمع فيه التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله تعالى وعباده ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها، واختير المنزل دون منه سلوكًا لطريق التعريض لأنه كلام وارد في عرضهم فلا يلبسون جلد النمر إذا عرض عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على علة الاستعاذة ورعاية حق تربية اللعين له عليه السلام في الجملة. وقرأ أبو عمرو. وحمزة. والكسائي {عت} بإدغام الذال المعجمة في التاء بعد قلبها تاء.

.تفسير الآية رقم (28):

{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)}
{الحساب وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} قيل كان قبطيًا ابن عم فرعون وكان يجري مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة، وقيل: كان إسرائيليًا، وقيل: كان غريبًا ليس من الفئتين، ووصفه على هذين القولين بكونه من آل فرعون باعتبار دخوله في زمرتهم وإظهار أنه على دينهم وملتهم تقية وخوفًا، ويقال نحو هذا في الإضافة في مؤمن آل فرعون الواقع في عدة أخبار، وقيل: {مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} على القولين متعلق بقوله تعالى: {يَكْتُمُ إيمانه} والتقديم للتخصيص أي رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون دون موسى عليه السلام ومن اتبعه، ولا بأس على هذا في الوقف على مؤمن. واعترض بأن كتم يتعدى بنفسه دون من فيقال: كتمت فلانًا كذا دون كتمت من فلان قال الله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 42] وقال الشاعر:
كتمتك ليلًا بالجمومين ساهرا ** وهمين هما مستكنًا وظاهرا

أحاديث نفس تشتكي ما يريبها ** وورد هموم لن يجدن مصادرا

وأراد على ما في البحر كتمتك أحاديث نفس وهمين، وفيه أنه صرح بعض اللغويين بتعديه بمن أيضًا قال في المصباح كتم من باب قتل يتعدى إلى مفعولين ويجوز زيادة من في المفعول الأول فيقال: كتمت من زيد الحديث كما يقال: بعته الدار وبعتها منه. نعم تعلقه بذلك خلاف الظاهر بل الظاهر تعلقه حذوف وقع صفة ثانية لرجل، والظاهر على هذا كونه من آل فرعون حقيقة وفي كلامه المحكي عنه بعدما هو ظاهر في ذلك واسمه قيل: شمعان بشين معجمة، وقيل: خربيل بخاء معجمة مكسورة وراء مهملة ساكنة، وقيل: حزبيل بحاء مهملة وزاي معجمة، وقيل: حبيب.
وقرأ عيسى. وعبد الوارث. وعبيد بن عقيل. وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو {رَجُلٌ} بسكون الجيم وهي لغة تميم ونجد {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} أي أتقصدون قتله فهو مجاز ذكر فيه المسبب وأريد السبب، وكون الإنكار لا يقتضي الوقوع لا يصححه من غير تجوز {أَن يَقُولَ رَبّىَ الله} أي لأن يقول ذلك {وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات} الشاهدة على صدقه من المعجزات، والاستدلالات الكثيرة وجمع المؤنث السالم وإن شاع أنه للقلة لكنه إذا دخلت عليه أل يفيد الكثرة عونة المقام. والجملة حالية من الفاعل أو المفعول، وهذا إنكار من ذلك الرجل عظيم وتبكيت لهم شديد كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله: {رَبّىَ الله} مع أنه قد جاءكم بالبينات {مّن رَّبّكُمْ} أي من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم لا ربه وحده، وهذا استدراج إلى الاعتراف وفي {أَن يَقُولَ رَبّىَ الله إِلَىَّ مِنْ رَبُّكُمْ} نكتة جليلة وهي أن من يقول ربي الله أو فلان لا يقتضي أن يقابل بالقتل كما لا تقابلون بالقتل إذا قلتم: ربنا فرعون كيف وقد جعل رب من هو ربكم فكان عليكم بأن تعزروه وتوقروه لا أن تخذلوه وتقتلوه، وجوز الزمخشري كون {أَن يَقُولَ} على تقدير مضاف أي وقت أن يقول فحذف الظرف فانتصب المضاف إليه على الظرفية لقيامه مقامه، والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره، ورده أبو حيان بأن القائم مقام الظرف لا يكون إلا المصدر الصريح كجئت صياح الديك أو ما كان بما الدوامية دون الغير الصريح كجئت أن صاح أو أن يصيح الديك، وفيه أن ابن جني كالزمخشري صرح بالجواز وكل إمام.
ثم أن الرجل احتاط لنفسه خشية أني عرف اللعين حقيقة أمره فيبطش به فتلطف في الاحتجاج فقال: {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله {وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم به أو يعدكموه، وفيه مبالغة في التحذير فإنه إذا حذرهم من إصابة البعض أفاد أنه مهلك مخوف فما بال الكل وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ولذا قدم احتمال كونه كاذبًا، وقيل: المراد يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالًا عندهم، وقيل: بعض عنى كل وأنشدوا لذلك قول عمرو القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزلل

وذهب الزجاج إلى أن {بَعْضُ} فيه على ظاهره، والمراد إلزام الحجة وإبانة فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعن فالبيت كالآية على الوجه الأول، وأنشدوا لمجيء بعض عنى كل قول الشاعر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها ** دون الشيوخ ترى في بعضها خللًا

ولا يتعين فيه فيه ذلك كما لا يخفى، وعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل أيضًا وأنشد قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ** أو يرتبط بعض النفوس حمامها

حمل البيت على معنى لا أزال أنتقل في البلاد إلى أن لا يبقى أحد أقصده من العباد، والمحققون على أن البعض فيه على ظاهره والمراد به نفسه، والمعنى لا أزال أترك ما لم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت، وقال الزمخشري: إن صحت الرواية عن أبي عبيدة في ذلك فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقي كان أجفى من أن يفقه ما أقول له، وفيه مبالغة في الرد {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} احتجاج آخر ذو وجهين. أحدهما أنه لو كان مسرفًا كذابًا لما هداه الله تعالى إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات. وثانيهما إن كان كذلك خذ له الله تعالى وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراد به المعنى الأول وأوهمهم أنه أراد الثاني لتلين شكيمتهم؛ وعرض لفرعون بأنه مسرف أب في القتل والفساد كذاب في ادعاء الربوبية لا يهديه الله تعالى سبيل الصواب ومنهاج النجاة، فالجملة مستأنفة متعلقة معنى بالشرطية الأولى أو بالثانية أو بهما.